السَّبّاح

علي القاسمي، 
كان عمري اثني عشر عاماً يوم قلتُ لأُمّي في يوم من أيام العطلة المدرسية الصيفية:
ـ ماما، أريد أن أستحم في النهر، وأحبُّ أن آخذ معي أخي حسن.
وكان أخي حسن في السادسة من عمره وأنهى السنة الأولى الابتدائية. والنهر لا يبعد كثيراً عن دارنا في البلدة.
قالت أُمّي، بعد أن أطرقتْ قليلاً:
ـ يا بني، إن أباك مسافر. وأفضِّل أن تنتظر حتى يعود من سفره قريباً، ويصطحبكما معه.
قلتُ:
ـ ولكن اليوم حار جداً، والسباحة في النهر متعة كبيرة، خاصةً إذا كان معي رفيق.
قالت:
ـ ولكن أخاك حسن لا يعرف السباحة، وأخشى أن يقع له مكروه.
قلتُ محتجاً وقد رفعتُ من نبرة صوتي:
ـ ولكنَّني، يا أُمّاه، أصبحتُ رجلاً ولم أعُد طفلاً. فعمري أثنتا عشرة سنة. سأعلمه السباحة، وأتأكَّد من سلامته.
وكانت أُمّي، خلال العامين الفائتين، كثيراً ما تقول لي في مناسبات عديدة:
ـ لا تبكِ، فقد أصبحتَ رجلاً. لم تعُد طفلاً، فعمرك قد تعدّى العاشرة.
أو تقول:
ـ افعل هذا بنفسك. اعتمد على نفسك، فقد أصبحتَ رجلاً، وعمرك أكثر من عشر سنوات.
ولكثرة ما ردَّدت مقولتها هذه، دخل في روعي أَنني لم أعد طفلاً، وأن الفرد يبلغ مرحلة الرجولة بعد العاشرة من العمر.
ولهذا، فعندما أشهرتُ في وجه أُمّي مقولتها المكرَّرة، لم تستطع مناقضة نفسها، ووقعتْ في حيرة من أمرها. ووافقتْ على مضض، وهي تقول:
ـ ولكن انتبه لأخيك. ولا تبتعدا عن جرف النهر.
قفزتُ فرِحاً، وجريتُ إلى غرفة أخي حسن، فوجدته يتصفّح كتاباً من كُتب الأطفال المصوَّرة. سحبته من يده قائلاً:
ـ تعال معي إلى النهر. سنسبح ونمرح كثيراً.
قال مستغرباً:
ـ ولكنَّني لا أعرف السباحة.
ـ لا يهمّ. سأعلِّمكَ. فقد أصبحتُ رجلاً.
ربَّما لم يفقه أخي حسن كلَّ ما قلتُه عن الرجولة، ولكنَّه أخذ يجرجر رجليه، وأنا أقوده من يده، بل أجرُّه جرّاً.
        وصلنا النهر، لم يكن غيرنا على ذلك الشاطئ القريب من دارنا. خلعنا ملابسنا ما عدا السروال التحتي. وضعنا ملابسنا على الشاطئ. نزلنا إلى النهر بالقرب من الحافة. رحنا نلعب فرحين، نأخذ حفنة من الماء ونرميها إلى الأعلى، أو يرميها أحدنا على الآخر. ثمّ حاولتُ أن أعلّمه السباحة بوضع يدي تحت بطنه والطلب منه بتحريك يديه ورجليه. اكتشفتُ أنَّه أثقل مما كنتُ أظنّ، على الرغم من أن الماء يخفِّف من ثقله. أكثرتُ من كلمات التشجيع. بعد ذلك تركته يلعب وحده في الماء بالقرب من الجرف، على حين رحتُ أسبح في النهر مبتعداً عنه قليلاً، ثمَّ أعود إليه، وهكذا.
        مضى على ذلك النحو نصف ساعة أو أقل، حين كنتُ عائداً إلى الجرف، فلم يقع ناظري عليه. هل خرج إلى الشاطئ؟ لا أحد على الشاطئ. رحتُ أتلفتُ في كلّ الاتجاهات. الماء جارٍ في النهر، ولا مخلوق فيه. أصابني هلع شديد.
        في تلك اللحظة تأكَّد لي أنَّ أخي حسن قد غرق. ففي كلِّ عام نسمع أنهم عثروا على أحد أبناء بلدتنا غريقاً في النهر أو وجدوا غريقاً طافياً انحدر مع مجرى النهر من الأعالي. في تلك اللحظة، وأنا أتلفتُ يمنةً ويسرة، تمثَّل لي وجه أُمّي الحزين وهي تلومني قائلةً:
ـ ألم أقُل لكَ إنَّه لا يعرف السباحة؟ ألم أقُل لكَ إنَّني أخشى عليه من الغرق؟ ألم أقُل لكَ إنَّ أباك غائب؟ ألم أرجوكَ أن تنتظر حتّى يعود أبوك؟ ألم…
        وفي اللحظة نفسها، تمثَّلَ لي أبي وهو يفسِّر لي سورة يوسف في القرآن. يعقوب يحبّ أصغر أولاده، يوسف، كثيراً.  إخوة يوسف يغارون منه، لأنهّ يحرمهم من حبّ أبيهم، أو هكذا يتوهّمون. يتآمرون على يوسف. يأخذونه معهم إلى البادية للَّعب، على الرغم من اعتراض أبيهم. يذهبون به بعيداً عن القرية. يلقونه في بئرٍ للتخلُّص منه.
        إذن سيتأكد لأبي أنَّني أغرقتُ أخي حسن عمداً. قد لا يفعل شيئاً، تماماً مثل يعقوب. ولكنَّ قلبه سيظلُّ حزيناً مكلوماً، ولا مكان لي فيه.
        أخذتُ أتلفَّتُ يميناً ويساراً محدِّقاً في سطح النهر الخالي. سيطر عليّ اليأس، فلا من أحد استنجد به، دعوتُ الله، في قلبي، أن يساعدني والدمع ينحدر من عيني. في تلك اللحظة، اتخذتُ قراراً جازماً: إنَّني لن أعود إلى أمُِّي إذا غرق حسن. لن أعود إليها مطلقاً، وإنَّما سأُغرِق نفسي أنا الآخر. ورحتُ، يائساً بائساً، أحدّق في سطح النهر في جميع الاتجاهات.
        فجأةً لاح لي رأس حسن ينبثق من الماء ليس بعيداً عني. اندفعتُ نحوه بكلِّ قوّتي، وأنا أمدّ يدي إليه. لمستُ شعره. جذبته من شعره. فلتَ مني. مددتُ كلتا يدي. قبضتُ على رأسه. سحبتُه بقوَّة خارج الماء. غطستُ أنا بدوري. لامستْ قدماي قعر النهر. واصلتُ المشي بكلِّ ما أوتيتُ من عزم رافعاً رأسه إلى الأعلى ليستنشق الهواء.. كدتُ أختنق تحت الماء. بعد خطوات قليلة ظهر رأسي في الهواء وأنا أسعل. ما إن بلغنا الشاطئ حتّى وضعتُ حسن على الأرض، ورجلاه ما زالتا في الماء. اخذ يتنفّس بصعوبة. ويسعل. عندما استطاع أن يتكلّم، نظر إليَّ نظرة عتاب أو هكذا بدت لي وقال بصوتٍ مُنهَكٍ لاهث:
ـ لقد غرقتُ. لقد غرقتُ.
قلتُ له:
ـ لا، إنَّكَ لم تغرق. أنتَ غطستَ في الماء بعد أن تعلمتَ السباحة. كلُّنا نغطس في الماء، ولهذا نأتي للسباحة في النهر.
قال:
ـ ما معنى غطست في الماء؟! أنا غرقت.
توقَّفَ عن الكلام وهو يلهث، ثمَّ أضاف:
ـ امتلأت معدتي بالماء. دخل الماء من فمي وأنفي. وحتى أُذنَي انسدَّتا.
ثمَّ تقيأ شيئاً من الماء.
قلتُ له وأنا أنشّف جسمه بالمنشفة:
ـ هكذا يحصل لي عندما أغطس في الماء.
قال محتجّاً:
ـ ولكنَّني اختنقتُ!
قلتُ له وأنا أتصنّع ابتسامةً:
ـ في الحقيقة، إنَّك لم تختنق، ولكنَّ نَفَسَكَ انقطع. وهذا هو التعبير الصحيح. وهو ما يحصل دائماً حتَّى لأشهر السبّاحين وأمهر الغطّاسين. أبو هيف انقطع نَفَسَه عدّة مرّات.
سأل وهو ينظر إليّ باستغراب:
ـ مَن هو أبو هيف، وما علاقتي به؟
قلتُ بجدّ:
ـ ما دمتَ قد أصبحتَ رجلاً وتعلَّمتَ السباحة، فمن اللازم أن تعرف أن أبا هيف هو أعظم سبّاح عربي، وقد استطاع أن يعبر المانش سباحةً.
ـ ما معنى المانش؟
ـ المانش بحر بين فرنسا وبريطانيا. وهو أعرض من هذا النهر بألف ألف مرّة.
ألبسته ثوبه، وأخذته من يده، وسرتُ به نحو سوق البلدة الصغير، وأنا أقول له:
ـ سأشتري لك الحلوى اليوم بمناسبة تعلُّمك السباحة، وقيامك بغطسةٍ رائعة.
أقبل على أكل الحلوى بشهية ملحوظة. فقلتُ له:
ـ أصبحتَ اليوم رجلاً، يا حسن، ولهذا سأعطيك درهماً كلَّ يوم من مصروف جيبي. كما سأشتري لك الحلوى التي تحبّها كلَّ يوم.
قال وهو غير مصدِّق، لأنني لم أُعطِه أي شيء من قبل:
ـ صحيح؟ شكراً.
قلتُ له ونحن في طريقنا إلى المنزل:
ـ أتعرف، يا حسن، أنا وأنتَ أصبحنا رجالاً؟
سأل وهو غير مصدق:
ـ صحيح؟
أجبتُ بنبرة حادّة جازمة:
ـ نعم بكلِّ تأكيد. أصبحتَ رجلاً مثلي، لأنك تعلّمتَ السباحة. وتذكّر أنَّ الرجال لهم أسرارهم التي لا يبوحون بها للنساء، ولا لأمَّهاتهم، ولا لأخواتهم.
سأل :
ـ لماذا؟
قلتُ:
ـ لأنّهم رجال. فالرجال رجال والنساء نساء. وهم لا يخبرونهنَّ بأسرارهم، وهنَّ لا يخبرونهم بأسرارهنَّ.
قال:
ـ لا أدري.
قلتُ:
ـ أنا أدري. أنا متأكِّد. ولهذا أرجوك أن لا تخبر أمّنا ولا أُختنا الصغيرة عن غطستك الرائعة في النهر هذا اليوم. طبعاً يمكنك أن تخبرهما بأنك تعلمتَ السباحة وأنكَ أصبحتَ رجلاً، مثلي. ولكن إياك أن تخبرهما عن غطستك الجميلة تلك. فهذا سرٌّ بيننا فقط. وإذا بحتَ به، فإنني سوف لا اشتري لك الحلوى كلَّ يوم، ولا أعطيك درهماً كلَّ يوم. اتفقنا؟
لم يُجِب ولكنه التهم آخر قطعة من الحلوى.
ولكي أبرهن له على صدق وعدي. أخرجتُ آخر درهم لدي ودسستُه في يده، قائلاً له وأنا أفتح باب المنزل:
ـ على شرط أن لا تخبر أمّك ولا أختك بتلك الغطسة.
ما إن دخلنا المنزل واستقبلتنا أمنا باسمةً فرحةً بعودتنا، حتى صرخ حسن بأعلى صوته قائلاً:
ـ ماما، أنا غرقتُ في النهر. أتعرفين؟ أنا غرقتُ.
عند ذلك أمسى وجهي أكثر اصفراراً، وقلت لأمي بعينين منكسرتَين وبنبرة اعتذار:
ـ صدقيني، يا أمّي، أنَّني قررتُ إذا غرق حسن، فإنني سأُغرِق نفسي معه ولا أعود إليك.
قالت أمّي:
ـ يا لخيبتي! يا للذكاء!  لكي تنكبني بولدَيَّ كليهما بدلاً من ولدٍ واحد.
كاتب عراقي مقيم في المغرب