ذلك هو التحدي الذي واجه الدكتور علي القاسمي، وهو يقدم على ترجمة رائعة همنغواي \”الشيخ والبحر\” التي سبق أن ترجمت من قبل، ومن قِبَلِ مترجمين كبار يشهد لهم بكفاءتهم العلمية، فما هي القيمة المضافة التي سيقدمها الدكتور القاسمي؟ وما هي مؤاخذاته على الترجمات السابقة؟
وما هي نقط القوة التي اعتمد عليها القاسمي بخوض هذه المغامرة العلمية؟ وما هي التقنية التي اتبعها القاسمي في ترجمته ليجعل من ترجمته عملا متميزا عن الترجمات السالفة؟
ينطلق الدكتور علي القاسمي من قناعة مفادها أن المترجم يعدُّ وسيطاً بين مؤلف أجنبي وقارئ وطني، وسيط بين لغة الأصل المرسلة ولغة الترجمة المتلقية، وسيط بين الثقافة التي كتب فيها النص والثقافة التي نقل إليها.
ويتوقف نجاح الترجمة على كيفية أداء هذا الوسيط لدوره. ويعتمد تفوق المترجم على تمكُّنه من اللغتين وإلمامه بالثقافتين معاً، ومعرفته لموضوع النص، وإدراكه لأسلوب المؤلف وثقافته\”3\”.
إن مجمل هذه الخصائص نجدها لدى الدكتور القاسمي من خلال ما يلي:
1ـ تمكن علي القاسمي من اللغتين الإنجليزية والعربية. إذ سبق له أن درس في الجامعة الأمريكية ببيروت، وهيأ بحثا باللغة الإنجليزية عن القصة الحديثة في العراق، كما تابع دراسته بجامعات عالمية أنجلوسكسونية في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا…
2ـ تمكنه، كذلك، من اللغة العربية، إذ يعتبر خبيرا في مجال المصطلح والدراسات المعجمية، ومؤلفاته العديدة في هذا المجال تشهد على كفاءته العلمية: إذ يعمل حالياً مستشارا لمكتب تنسيق التعريب، وعضوا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة ومجمع اللغة العربية بدمشق.
3ـ اطلاعه الجيد على أسلوب القصة التي كتبها، وترجم العديد منها من اللغة الإنجليزية إلى العربية، الشيء الذي جعله يميل إلى ترجمة القصة والإبداع عموما، وهذه النصوص المترجمة ساهمت بشكل كبير في تطوير موهبة علي القاسمي الإبداعية من جهة؛ لأنه يستفيد من أساليب النصوص المترجمة، كما ساهمت، أيضا، في تطوير ملكته في الترجمة باستعادتها في أسلوب القصة لديه \”4\”.
4 ـ اطلاع القاسمي الجيد على الثقافة الإنجليزية أدبا وفكرا، فهو جد ملم بالنص الأدبي، وخاصة همنغواي الذي تعرف عليه عندما كان طالبا، وقرأ جميع أعماله القصصية والروائية. ففي هذه الفترة، بالذات، كان القاسمي يعتبر همنغواي كاتبه المفضل باللغة الإنجليزية.
فهذا الحب لهمنغواي في المرحلة الطلابية، دفعه فيما بعد إلى الذهاب إلى الولايات المتحدة الأمريكية للدراسة، والتحقق من دراسة أعمال الأدباء الذين تحدث عنهم همنغواي في كتابه \”الوليمة المنتقلة\”: عزرا باوند وتي إس إليوت وسكوت فيتجرلند، وغيرتيتيود شنتاين وجمس جويس وفورد ماكدوس، وفوريد دوندهام ولويس وغيرهم. \”5\”
5 ـ دراسة القاسمي النظريات الحديثة في الترجمة والدراسات المعجمية، إذ تطورت نظريته لعملية الترجمة، وهي القناعة التي دفعته إلى ترجمة \”الوليمة المتنقلة \” قبل \”الشيخ والبحر\”.
فحينما شرع الدكتور علي القاسمي في إعادة ترجمة رائعة همنغواي \”الشيخ والبحر\” تعمّد عدم الاطلاع على الترجمات السالفة حتى لا يتأثر بها، فأنجز ترجمته الشخصية للقصة انطلاقا من قدراته الخاصة وخبرته في الترجمة التي راكمها من قبل. وقد كان هدفه من ترجمة عمل همنغواي هو المحافظة على أسلوبه السهل الممتنع، وصيانة تقنياته السردية والاقتصاد في اللغة\”6\”.
إن هذا الهدف لا يمكن تحقيقه بالعودة إلى الترجمات السالفة، والاعتماد عليها لإعادة ترجمة النص، لأن هذه العودة كان من شأنها أن تؤثر في أسلوب المترجم.
وقد بيَّن الدكتور القاسمي في الدراسة التي ذَيَّل بها النص المترجم مجموعة المؤاخذات والأخطاء التي وقعت فيها الترجمات السابقة، الشيء الذي يتم عن ذلك الإحساس الذي راود القاسمي قبل الشروع في الترجمة، كما أوضح القاسمي أن مجمل الأخطاء التي وقعت فيها الترجمات السالفة راجعة بالخصوص إلى عدم الاطلاع الجيد على أسلوب همنغواي في الكتابة وعلى أدبه والدراسات النقدية التي أنجزت حوله؛ فهو لا يشك أبدا في المستوى اللغوي العالي للمترجمين السابقين.
ولهذا نجده يعتمد في ترجمته الجديدة لرواية \”الشيخ والبحر\” على تتبع أسلوب همنغواي البسيط، دون البحث عن المصطلحات الصحيحة في اللغة العربية لإغراق النص المترجم بها، كما تفادى أسلوب تحسين اللغة وذلك حتى لا يخل بأسلوب همنغواي، لأن أسلوبه لا يهدف إلى إثارة عاطفة القارئ، فأسلوب هنمنغواي في قصصه ورواياته مثل \”الوليمة المتنقلة\” يعتمد غالبا على وصف الأحداث والأفعال والشخصيات بصورة شفافة ومحايدة، وهذا ما تجلى في كتاباته الصحفية حينما كان مراسلا في باريس لبعض الصحف الأمريكية.
والقارئ لترجمات علي القاسمي لأعمال ارنست همنجواي يلمس هذه الأمانة العلمية في الترجمة التي تحافظ على أسلوب همنغواي الموضوعي، وهو الأسلوب الذي عبر عنه رولان بارت بدرجة الصفر في الكتابة \”7\”.
إن المحافظة على أسلوب صاحب النص وتقنياته، تجعل المترجم يصل إلى درجة عالية من الأمانة العلمية في الترجمة، يقول القاسمي في شأن هذه العلاقة: \”وأمانة المترجم ليست مرهونة بنقل المضامين فقط، بل بنقل الأساليب أيضاً.
فحاصل المعنى يأتي مما قيل في النص ومن الكيفية التي قيل فيها. ولهذا نجد بعض الأعمال الأدبية الكبرى قد ترجمت عدة مرات إلى اللغة الواحدة. وهذه الترجمات المتعددة لبعض الأعمال الأدبية العالمية تتباين من حيث أمانتها وجودتها النوعية.\” \”8\”
ولتحقيق هذا الهدف في ترجمته لرواية \”الشيخ والبحر\” التي سبق أن ترجمت من قبل، ولكي يلعب القاسمي دور ذلك الوسيط بين اللغة العربية وثقافتها واللغة الإنجليزية وثقافتها، حرص بشكل جيد على تتبع سلسلة من التقنيات، جعلت ترجمته تختلف عن الترجمات السابقة، من أهم التقنيات التي اعتمدها القاسمي في هذا العمل نذكر:
* العودة إلى المعاجم المتخصصة لتدقيق ترجمة بعض المفاهيم العلمية الواردة في القصة، مثل ما فعله مع مصطلحات \”مجرى الخليج\” \”Gufl Stream \”، وأسماء بعض الطيور.
ولا غرابة أن نجد هذه الدقة في الترجمة لدى القاسمي المعروف باهتماماته العلمية حول المصطلح والدراسات المعجمية.
من هذا المنطلق، فعودة القاسمي إلى \”المعجم الموحد لمصطلحات الجغرافية\” ليميز بين تيار Current ومجرى Stream تعد مسألة عادية، حرصا منه على الدقة العلمية في الترجمة.
* تركيز القاسمي على تركيبة الجملة العربية وأهميتها في تحديد المعنى، فعندما نضع الجملة في المبني للمجهول تكون لها دلالة مخالفة لوصفها في المبني للمعلوم، وهذا ما يُخل بمضمون القصة بأكملها وليس الجملة فقط. وهذه إحدى الملاحظات التي سجلها على ترجمة زياد زكريا \”ب\” في جملة \” قد عَبَرتْ به 84 يوماً \”، في حين فضل هو ترجمتها بجملة \” قد أمضى 84 يوما \”، \” He hand gone eighty four days \”؛ لأن الشيخ في القصة ليس شخصية سلبية غير فاعلة، بل يبذل جهدا كبيراً، ويوظف خبرته من أجل اصطياد سمكة، فهو فاعل وليس مفعولا به.
وبالتالي فترجمة الجملة بحيث يكون الشيخ في صيغة المفعول به وليس في صيغة الفاعل، تخل بالمعنى العام للقصة بأكملها وليس بالجملة فقط \” \”9ونفس الملاحظة سجلها على الجملة الثانية، \”لم يَجُدْ عليه البحر بسمكة واحدة \” \” without taking a fish\” والتي فضل القاسمي ترجمتها بعبارة \” دون الحصول على سمكة \”، ذلك أن البحر لا يَجُودُ على الشيخ بأي شيء\”، فهو رجل عملي وعصامي وفاعل يرفض ثقافة الاستسلام، وقد تمكن بفعل عزيمته وإرادته وبعد 84 يوماً من الإبحار في اصطياد أكبر سمكة على الإطلاق، جعلت جميع الصيادين يستغربون من حجمها.
فهذه القصة تمجِّد روح العمل والاعتماد على النفس، وحينما يستعمل المترجم عبارة \”يجود عليه البحر\”، وكأنه سلبي ومجرد شخص يعيش على حساب البحر، وهذه ليست الغاية التي يريدها همنغواي من وراء قصته؛ وهذه الغاية التي تمجد روح العمل جعلته يرفض ترجمة Old man بالعجوز، وفضل ترجمتها بالشيخ؛ لأن الشيخ رمز للحكمة والرزانة، بينما العجوز رمز للهرم والخمول.
* حفاظاً على روح القصة، ظل القاسمي حريصاً على المحافظة في ترجمته على صيغ القول الواردة في القصة، خاصة صيغة الفاعلية والمفعولية، وصيغه المبني للمعلوم والمجهول، ويصغه الكلام المباشر وغير المباشر \”10\”.
تتلخص إذاً مؤاخذة القاسمي على معظم الذين ترجموا \”الشيخ والبحر\” في كونهم لم يأخذوا بعين الاعتبار خصائص أسلوب همنغواي، ولا تقنياته السردية. ويلخِّص لنا القاسمي أسلوب همنغواي في العناصر التالية:
– السهل الممتنع.
– الاقتصاد في اللغة.
– عدم المبالغة.
– الحيادية في السرد.
– استعمال اللغة الإشارية والتلميح بدل التصريح.
– إشراك القارئ في العملة الإبداعية.
بالإضافة إلى توفر علي القاسمي على الكفاءة الأدبية والثقافية والاجتماعية بخصوص نصوص همنغواي والأدب الإنجليزي عموماً، وخاصة آداب القصة، فإن ترجمته لقصة \”الشيخ والبحر\” لم يكتف فيها بهذا الجانب فقط، بل ولكي يعيش أجواء القصة من خارج النص، توجه قبل ترجمتها إلى مدينة الصويرة المغربية، وقضى ليلة كاملة في مركب شراعي صغير يقوده صياد سمك، وذلك للاطلاع على أجواء البحر، والمفاهيم المرتبط بعالم الصيد والأدوات المستعملة فيه.
كما اقتنى شريطين سينمائيين أنتجهما هوليود لهذه القصة، أحدهما من بطولة سنسر تريسي، والآخر من بطولة أنطوين كوين \”11\”.
ويعدّ هذا الاستعداد الأولي مسألة أساسية بالنسبة للقاسمي لتحقيق العملية في ترجمة الأعمال الإبداعية التي تعد ترجمتها من أصعب الترجمات.
من هنا نؤكّد أنه بحكم ثقته في قدرته العلمية تمكن القاسمي من ترجمة قصة \”الشيخ والبحر\” ترجمة علمية دقيقة تفوَّق فيها على الترجمات السابقة، والقارئ للدراسة النقدية التي ذيَّل بها النص المترجم، سيقتنع بالحجج التي قدمها القاسمي للدفاع عن ترجمته.
كما أن القارئ لهذه الترجمة سيحس وكأنه يقرأ قصةً من إحدى قصصه، لأن أسلوبه في الترجمة قريب من أسلوبه في كتابة القصة، وهذا راجع إلى التقارب بين أسلوبي: همنغواي وعلي القاسمي في كتابة القصة…
____________________
• كاتب مغربي، عضو هيئة تحرير مجلة \” رهانات\”.
المراجع:
1- حوار مع القاص العراقي الدكتور علي القاسمي، حاوره إبراهيم أولحيان. مجلة \”عمان\”، عدد 158، ص:33.
2- إرنست همنغواي: \”الوليمة المتنقلة \”، ترجمة الدكتور علي القاسمي، منشورات الزمن 2001، ص: 6.
3-إرنست همنغواي : \”الشيخ والبحر \”، ترجمة الدكتور علي القاسمي، منشورات الزمن 2008، ص : 113.
4- الحوار نفسه، مجلة عمان، ص : 34.
5- تقديم علي القاسمي لترجمة: \”الوليمة المتنقلة\”، مرجع سابق، ص : 16.
6- إرنست همنجواي: \”الشيخ والبحر\”، مرجع سابق، ص: 50.
7- المرجع نفسه، ص: 7.
8- المرجع نفسه، ص: 15.
9- المرجع نفسه، ص: 130.
10- المرجع نفسه، ص: 137.
11- المرجع نفسه، ص: 115.
12- المرجع نفسه، ص: 134.